إربد - أحمد الخطيب - «لست غريبا عن إربد، أبي خدم في إربد، وجدي توفي هنا في إربد، وأنا أعتز بمسقط رأسي الزرقاء كما أعتز بإربد» ، كلمات قالها الشاعر سميح القاسم في مدخل قراءاته الشعرية في الامسية الشعرية التي تنظمها بلدية إربد الكبرى بمناسبة مرور 125 عاما على تأسيسها، التي أدارها د. توفيق أبو الرب، وتابع القاسم في معرض تقديمه لقراءاته قائلا أمام الجريمة النكراء في قانا الجديدة، راودتني فكرة قصيدة جسدتها في كلمات قليلة، حيث في قانا الجليل حول السيد المسيح الماء إلى خمر ليستمر العرس، أما جيش الاحتلال فحول الدم إلى خمر، وستكون أعجوبته الأخيرة، لأن عجيبتنا في دمنا .
القراءة الأولى التي قدمها الشاعر القاسم كانت قصيدة عجيبة للماء، عجيبة للدم حيث رسخ الشاعر فيها قوة حضور التناص الفعلي، والوقفي على الذات الباحثة عن نافذة للشمس المستترة في تتابع الأجيال من خلال استحضاره لحالتين، حالة الزهو المشعة من فعالية الإنسان واحتفاظه بعلو شأنه والمتمثلة في قيمة فعل سيدنا المسيح بإحالته الماء خمرا ليستمر العرس، وحالة العار والطيش من تحويل الدم خمرا في قانا على أيدي الجيش الإسرائيلي
الماء خمر العرس
عجيبة بريئة
للسيد المسيح في قانا
وتزهر النفس
ويزهر الجليل
والدم خمر العار في قانا
وعرس الطيش
يا جيش إسرائيل
عجيبة جبانة يا جيش
في عرسك الذليل
وتابع القاسم في قصيدته استفزاز هذه المتغيرات من خلال ملاحقة عناصرها الشكلية والنفسية ، لتبقى الحواس شاهدة على تحولات العجائب التي تراقبها الذات :
ولم تزل عجيبة لعرسنا
يوم نزف الشمس
إلى قباب القدس
وتنتهي عجائب التدمير والتخريب والتقتيل
في ليلك الطويل
يا جيش أمريكا وإسرائيل
عجيبة من دمنا.. في دمنا .. لدمنا
جيلا وراء جيل
جيلا وراء جيل
ولتعميق حدة الرؤية وانبعاثها من الكينونة الواحدة للذات، وقدرتها على قراءة الأحداث تابع القاسم قراءاته، حيث أنشأ في قصيدته القصيدة الإربدية فعلا شعريا موازيا ينحاز في مجمله إلى منتج الذات، واتصالها بجميع مفردات التجربة الإنسانية، المكانية والزمانية، بكافة أبعادها الدلالية :
وعدتك كاذبة، فضاع الموعد
وحزنت فانكفأت وحزنك يصعد
دنيا هي الدنيا على علاتها
عبثا إلى جد، ورب يشهد
تعطيك من طرف اللسان حلاوة
وتروغ منك فتدعي وتفند
وترمم الآمال فيك مصدقا
تدنو على عطش وينأى المورد
ويظل فيك دم يلج مجاهدا
ويظل برج الثور منك معاندا
الورد بعد ذبوله يتجدد
وفي انتظام شعري تبادلي من واقع مقروء إلى واقع ملموس، واصل القاسم في قراءاته فتح بوابة الأمل في انعكاس العلاقة القائمة بين الكون وعناصره والإنسان وما يترتب عليه من ضغوطات تمهيدا لرؤية أشمل، يتحرك في جغرافيتها الأمل باتجاه السمو والعنفوان :
وطني الكبير عباءتي وقصيدتي
وعقيدتي وجموح يعرب محتد
وتؤلب الجدران حلكة ليلها
ليشع نجم من دمي يتوقد
وتطأطئ الأغلال دوني رأسها
وجريد رأسي نخلة تتأود
وطني بلى وطني وتنضج نطفة
يا مريم ابتهجي يضيء المذود
وركز الشاعر القاسم في قراءاته على البحث عن الهوية، ليست هوية الفرد فقط، بل هوية الشعب، ليجمع في هذا البحث رغم تبعية المواجهة، قيمة وأثر اختراق قوانين القيد والهاجس النفسي الذي يحاصر القوى الكامنة في الداخل الإنساني، هذا الداخل الإنساني القوي في وحدته وانتظامه في صد همجية الظلام
وها أنا بعد اغتراب فادح
جرح يغور وندبة تتأبد
ما الأمس والأيام في تقويمنا
عرس وناضجة الثمار هي الغد
ونلوب في الطرقات فردا تائها
لنعود شعبا والتجلي المفرد
أوجاعنا لغة وسيرتنا فم
ووجوهنا وجه وأيدينا يد
مهما افترقنا فالعذاب يوحد
وبالرغم من شعرية المقاومة في قصيدته الإربدية، اتخذ القاسم ركنا هادئا للتأمل والترقب، ركنا يصوغ من خلاله أثر القادم ورؤيته، من خلال ما استحضره من مرابع الطفولة المعشبة في داخله، والشيخوخة التي يطل من نافذتها على هذه المرابع :
هذا أنا تمحو الغمامة رايتي
ودمي على سفاكه يتمرد
هذا أنا أم القصائد جمرتي
ومشيئتي وطن وشعب سيد
تتبدل الأوراق بين فصولها
والسنديان على الفصول مخلد
وأنا هنا شيخوخة وطفولة
وقصيدة تصبي الصبا وتجدد
هذا أنا لبيت يوم دعوتني
فلتسلمي ولتغنمي يا إربد
وبعد هذا التأمل والترقب، عاد الشاعر القاسم ليكشف في قصيدة غوانتناموا عن سيرة التفاصيل من جديد، تفاصيل الحرية المقيدة، وحقوق الإنسان التي جيرها الظلام لماكينته الدموية، والديمقراطية التي يختاطها الظلام كما يشاء، هكذا عاد ليكشف عن بنية موضوعية دون تزويق ودون لبس، ليضع بين يدي الجمهور رؤية واضحة لما يدور في غوانتناموا :
هنا يسهر الموت
في اليوم دهرا
وروح الحياة تنام نهارا
وتهرم
بكاء الرجال هنا
وبكاء النساء ليضحك
ملأ البكاء اللئام
هنا
غوانتناموا
يذكر ان الشاعر سميح القاسم ولد في مدينة الزرقاء الأردن سنة 1939م وتلقى علومه في بلدة الرامة الجليل، وفي مدينة الناصرة، أنهى دراسته الثانوية، له رواية بعنوان إلى الجحيم أيها الليلك نشرها سنة 1978م، وله عدة مجموعات شعرية منها قرابين، شخص غير مرغوب فيه، لا أستأذن أحدا، سبحة للسجلات، مواكب الشمس، أغاني الدروب، مي على كفي، دخان البراكين، سقوط الأقنعة، طائر الرعد، قرآن الموت والياسمين وظهرت معظم دواوينه في ديوان سميح القاسم عن دار العودة، وهو من الشعراء المبدعين الكبار في الشعر العربي المعاصر، ميزة شعره الالتزام والوضوح في توصيل المضمون السياسي والوطني والوجداني.
القاسم صاحب «سربية الصحراء» يقرأ في اربد قصائد لأطفال قانا.. الورد بعد ذبوله يتجدد
12:00 2-8-2006
آخر تعديل :
الأربعاء